بين رواية الحديث والتاريخ
كتبه/ محمد مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فممَّا اختصَّ اللهُ -عز وجل- به الأمةَ الإسلامية خصيصةُ الإسناد المتصل، تلك الخصيصة التي لا توجد عند أي أمَّة من الأمم، ممَّا جعلها أمةً فريدةً في إثبات ما تدين به وتعتقده، بخلاف غيرها من الأمم ممن يدين بما لا يمكن إثباته بسند متصل، فضلاً عن أي سند ولو كان منقطعًا!
والإسناد اصطلاحًا هو: سلسلة الرواة الذين نقلوا الخبر واحدًا بعد واحد إلى أن يصلوا بالرواية إلى مصدرها الأصلي، فصار الإسناد بذلك هو الوسيلة لنقد الأخبار؛ إذ بمعرفة نقلة الخبر تـُعرف قيمته من حيث القبول والرد، قال ابن المبارك -رحمه الله-: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
وكما أمر الشرعُ بقبول خبر العدل الثقة؛ فقد أمر الله -عز وجل- في كتابه وأمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في سنته بالتثبُّت من خبر الفاسق، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ) (متفق عليه)، وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم).
قال الحاكم -رحمه الله-:
"فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه؛ لدرس منار الإسلام، ولتمكَّن أهل الإلحاد والبدع بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد؛ فإن الأخبار إذا تعرَّت عن وجود الأسانيد كانت بُترًا" معرفة علوم الحديث: ص6.
وصدق رحمه الله؛ فقد بذل علماء المسلمين غاية الجهد في الحفاظ على الأسانيد وتنقيتها من الكذب والوضع؛ فوضعوا قواعد لجرح الرواة وتعديلهم، ودقـَّقوا في وضع الألفاظ الدالة على الجرح أو التعديل وبيان معانيها، وتشهد بذلك عشرات المؤلفات لعلماء المسلمين في شروط وقواعد الرواية وبيان الثقات والضعفاء، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
الاهتمام بالأسانيد امتد ليشمل غير الحديث النبوي، كالتاريخ:
وإن كان الحديث النبوي قد نال أعلى الاهتمام بدراسة أسانيده وتنقيتها؛ إلا أن الاهتمام بالأسانيد قد امتدَّ ليشمل عددًا من العلوم كالتفسير، والتاريخ، والأدب، حتى صار صفةً غالبةً على منهج تدوين العلوم الإسلامية المختلفة.
والروايات التاريخية المسندة يجدُها الباحث في كتب التاريخ المسنَدة نفسها، وعلى رأسها "تاريخ الأمم والملوك" المعروف بـ"تاريخ الطبري"، ومنها أيضًا كتاب "التاريخ" لخليفة بن خيَّاط البصري، وكتاب "التاريخ الكبير" ليعقوب بن سفيان الفَسَوي، وكتاب "التاريخ" لأبي زرعة الدمشقي، وغيرها من الكتب المسندة، وكذلك توجد بعض المرويات التاريخية في كتب الحديث مثل: "صحيح البخاري" و"مسند أحمد" و"جامع الترمذي"، أو في المصنفات مثل: "مصنف ابن أبي شيبة"، أو في كتب التفسير التي تذكر بعض الروايات التاريخية بالأسانيد مثل: "تفسير الطبري".
ولكن الناظر في الروايات التاريخية يجد أنه بالرغم من وجود روايات مسندة إلا أن الأغلب الأعم في الروايات التاريخية أنها لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية، وأكثرها محمول عن الإخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون، إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة.
تساهل العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية بخلاف الحديث النبوي:
إلا أن الناظر في طريقة العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية يجد أن هناك فرقـًا بين تطبيق قواعد نقد الحديث على الحديث النبوي وعلى الروايات التاريخية؛ فقد كان مِن علماء السلف نوعُ تساهلٍ -تحكُمُه ضوابطُ- مع روايات التاريخ، ولم يعاملوها معاملة الحديث.
قال أكرم ضياء العمري: "أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسُّف كثيرٌ، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامَل معاملة الأحاديث، بل تمَّ التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثِّل هوَّة سحيقة بيننا وبين ماضينا، مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع... لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية؛ فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير مُعين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأُولى نالت من العناية ما يمكِّنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة" دراسات تاريخية: ص27.
التفريق بين ما يُتشدد وما يُتساهل فيه من الأخبار:
ولكن هذا التساهل لا يمكن تعميمه على جميع الروايات التاريخية؛ فإن الناظرَ في طريقة العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية من حيث تطبيق قواعد نقد الحديث من عدمه أو التساهل فيه يجد أن الأمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.
وباستقراء ما ذكره العلماء نجد أن أهم ما تشدد فيه العلماء من روايات التاريخ:
1- ما يتعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمرويات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يُمكن أن يستنبط منها حكم شرعي، ومنها ما لا يُستنبط منه، وإنما هو من باب الأخبار المجرَّدة.
فأمَّا يمكن أن يُستنبط منه حكمٌ شرعيٌّ فإنه يُتشدَّد في تطبيق قواعد نقد الحديث عليه، أما الأخبار التي لا تـُستنبط منها أحكام كتاريخ سرية من السرايا، أو عدد مَن كان فيها، أو تحديد موقعها بدقة، ونحو ذلك؛ فهذا يُتساهل في روايته.
ولكن ينبغي التعامل بحذر أيضًا مع هذه الأخبار؛ لأنه أحيانـًا تكون مثل هذه الأخبار المُتسَاهل فيها لها علاقة غير مباشرة باستنباط الأحكام، وهذا كمعرفة تقدُّم خبر أو تأخُّره مما يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ على سبيل المثال، فهنا ينبغي العودة إلى التعامل مع قواعد نقد الحديث فيما يتعلق بهذا الحكم، مع مراعاة أنه يمكن الاستفادة من الخبر جملةً مع التوقـُّف في تقرير الأحكام منه، سواء أستـُفِيدت هذه الأحكام بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
2- ما يتعلق بثلب أو تنقص أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته، وعلى رأسهم الصحابة- رضي الله عنهم-، فتشدَّد العلماء في قبول الروايات التاريخية المتعلقة بما جرى بين الصحابة، وكذلك تشدَّدوا في الروايات المنسوبة إلى الأئمة المعروفين الثابتة عدالتهم مما يطعن في اعتقادهم أو سلوكهم، قال ابن حجر -رحمه الله-: "لأنَّ كل من ثبتت عدالته لا يُقبل جرحه حتى يَتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه" التهذيب "7/273".
3- ما يتعلق بقضية في العقيدة كإثبات أسماء وصفات غير واردة في الصحيح، أو ما يتعلق بحكم شرعي كتحليل وتحريم.
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إذا روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكمًا أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد" الكفاية في علم الرواية: ص212.
وروايات التاريخ تدخل فيما لا يضع حكمًا أو يرفعه، بالضوابط المذكور آنفـًا، وقال محمد بن سليمان الكافيجي -رحمه الله-: "يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفـًًا في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات الباري -عز وجل- وفي صفاته، ولا في الأحكام" المختصر في علوم التاريخ: ص326.
وقد عقد الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" فصلاً بعنوان: "ما لا يفتقر كتبه إلى الإسناد"، ومما قال فيه: "وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهَّاد والمتعبِّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها، وليست شرطًا في تأديتها"، ثم ساق بإسناده عن يوسف بن الحسن الرازي قوله: "إسناد الحكمة وجودها".
وساق بإسناده أيضًا إلى سعيد بن يعقوب، قال: "سمعت ابن المبارك وسألناه قلنا: نجد المواعظ في الكتب، فننظر فيها؟
قال: لا بأس، وإن وجدت على الحائط موعظة فانظر فيها تتعظ.
قيل له: فالفقه؟
قال: لا يستقيم إلا بالسماع".
وساق بإسناده أيضًا عن محمد بن عبد الخالق ، قال: كنت جالسًا عند يزيد بن هارون وخراساني يكتب الكلام ولا يكتب الإسناد، قال: فقلت له أو قيل له: "مالك لا تكتب الإسناد؟"، فقال: "أنا خانه خواهم نبازار" ، قال أبو طالب تفسيرَه قال: " أنا لبيتٍ أريده لا للسوق"، قال أبو بكر: "إن كان الذي كتبه الخراساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ فلا بأس بما فعل، وإن كان ذلك من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلال والحرام فقد أخطأ في إسقاط أسانيده؛ لأنها هي الطريق إلى تبيُّنه، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته". الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "2/316-319" ط. الرسالة.
فكانت هذه طريقة العلماء -رحمهم الله- في التعامل مع المرويات التاريخية التي لا تـُستقى منها الأحكام، ويبدو هذا المنهج جليًّا أيضًا في تعامل عدد كبير من العلماء ممَّن جمع بين معرفة الحديث والتاريخ مع المرويات التاريخية كابن عساكر، والمزِّي، والذهبي، ومغلطاي، وابن حجر، والسخاوي -رحمهم الله أجمعين-.
مثال تطبيقي مِن تعامُل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- مع الروايات التاريخية:
وبعد استعراض المنهج الإجمالي نقف مع مثالٍ تطبيقيٍّ من تعامل الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- مع المرويات التاريخية، وهو أمير المؤمنين في الحديث الذي شهد له القاصي والداني بعلوِّ الكعب في علم الحديث رواية ودراية، بل إمامته في هذا الفن، ونختار لذلك أمثلةً من تعامله مع مرويات محمد بن إسحق -رحمه الله-.
قال ابن حجر -رحمه الله- عن محمد بن إسحق: "إمام في المغازي صدوق يدلس" طبقات المدلسين: ص51.
وبالرغم من تدليس محمد بن إسحق -رحمه الله- وتقرير ابن حجر لذلك إلا أنه -رحمه الله- كان يعتبر قولَه في السيرة والمغازي فيما لو طُبِّقت عليه قواعد النقد الحديثية لا يصمد أمامها بالمرَّة، ومن ذلك:
أ- في قصة بني النضير ومتى كان حصارهم: ذكر ابن إسحق أنها كانت بعد أُحد وبعد استشهاد القراء في بئر معونة، والذي في البخاري معلـَّقـًا مجزومًا به عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي قبل أحد.
قال البخاري -رحمه الله-: "باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الزهري عن عروة: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وقول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ) (الحشر: 2)، وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحد".
وقد مال ابن حجر -رحمه الله- إلى ترجيح رواية ابن إسحق رغم إيراده سببًا للغزوة غير الذي ذكره ابن إسحق، فقد ذكر ابن إسحاق أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمِّه، وقد كانت بئر معونة بعد بدرٍ باتفاق أهل العلم، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: "ممن أنتما؟"، فذكرا أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لأُودِيَنَّهُمَا).
فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحِلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: "نعم"، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: "إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال"، وكان جالسًا -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب جدارٍ لهم، فقالوا: "مَن رجل يعلو على هذا البيت فيُلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟"، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه: (لا تَبْرَحُوا)، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنه توجَّه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصَّنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق.
وبعد أن أورد ابن حجر -رحمه الله- كلام ابن إسحق نقل ما رواه ابن مردويه بإسناد صحيح -خلافًا لابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد- إلى معمر، عن الزهري، وفيه: "فلمَّا كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون؛ يتهدَّمونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك"، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبَّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه".
ثم قال ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جلُّ أهل المغازي، فالله أعلم، وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذكر من همِّهم بالغدر به -صلى الله عليه وسلم-، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية؛ تعيَّن ما قال ابن إسحاق؛ لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق" فتح الباري "7/329-332".
ب- في قصة مقتل أبي جهل يوم بدر: جعل رواية ابن إسحق جامعة بين الروايات رغم مخالفتها لما في الصحيح، وذلك في قوله: "فهذا الذي رواه ابن إسحق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه رأى معاذًا ومعوذًا -رضي الله عنهما- شدَّا عليه جميعًا حتى طرحاه -يعني: أبا جهل-" فتح الباري "7/269".
ج- في ذكر عدد الغزوات: استشهد بقول ابن إسحق وجمع بينه وبين أقوال من هو أوثق منه من رواة الصحيح. "فتح الباري: 7/279-280".
وكذا فعل مع الواقدي بالرغم من أنه قال عنه: "متروك مع سعة علمه" التقريب "2/194".
ليس معنى التساهل في رواية التاريخ الرواية عن ساقطي العدالة:
وليس معنى التساهل في رواية التاريخ أن يُتساهل في الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة؛ لأن ساقط العدالة لا يُحمل عنه أصلا، وإنما المقصود التساهل في:
1- قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط أو التغيُّر والاختلاط ونحو ذلك.
2- قبول الروايات المرسلة والمنقطعة.
وهذا ما جعل العلماء لا يتساهلون مع كتب التاريخ التي كتبها ساقطو العدالة من كذابين ووضَّاعين أو من غلاة المبتدعة، فالتساهل في الروايات التاريخية لا يمتد إلى التساهل في حال المؤرخ نفسه؛ فإن المؤرخ يُشترط له ما يُشترط في راوي الحديث من عقل وضبط وإسلام وعدالة.
قال السبكي -رحمه الله-: "فلابد أن يكون المؤرخ عالمًا عادلاً عارفـًا بكل من يترجمه، ليس بينه وبينه من الصداقة ما قد يحمله على التعصب له، ولا من العداوة ما قد يحمله على الغضِّ منه" قاعدة في المؤرخين: ص7.
فالمسعودي -مثلاً- صاحب كتاب "مروج الذهب" تـُطرح مروياته التاريخية، ولا تـُقبل بحال، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "في تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله، فكيف يُوثق بحكاية منقطعة الإسناد في كتاب قد عُرِف بكثرة الكذب؟!" منهاج السنة النبوية "4/84".
وقال ابن حجر -رحمه الله- عنه: "وكتبه طافحة بأنه كان شيعيًّا معتزليًّا" لسان الميزان "5/532".
الخلاصة:
1- للإسناد أهمية كبيرة في الإسلام، ولعلماء المسلمين جهود عظيمة في الحفاظ على الأسانيد.
2- الرواية بالأسانيد لا تقتصر على الأحاديث؛ وإنما تمتد لتشمل التاريخ وغيره.
3- الأغلب الأعم في الروايات التاريخية أنها لا تصل في درجة ثبوتها إلى درجة الأحاديث.
4- عامَلَ العلماء الروايات التاريخية بصورة مختلفة عن الأحاديث النبوية؛ حيث تساهلوا في روايتها، على ألا يشمل هذا التساهل الرواية عن ساقطي العدالة.
5- اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة فيه تعسُّف كبير.
6- يُتشدَّد في تطبيق قواعد نقد الأسانيد فيما يتعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وما يتعلق بتنقص أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته وعلى رأسهم الصحابة الكرام، وكذا ما يتعلق بالاعتقاد أو الأحكام الشرعية.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
مراجع لم يُشر إليها في ثنايا المقال:
تاريخ الطبري - حقبة من التاريخ - تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة.
كتبه/ محمد مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فممَّا اختصَّ اللهُ -عز وجل- به الأمةَ الإسلامية خصيصةُ الإسناد المتصل، تلك الخصيصة التي لا توجد عند أي أمَّة من الأمم، ممَّا جعلها أمةً فريدةً في إثبات ما تدين به وتعتقده، بخلاف غيرها من الأمم ممن يدين بما لا يمكن إثباته بسند متصل، فضلاً عن أي سند ولو كان منقطعًا!
والإسناد اصطلاحًا هو: سلسلة الرواة الذين نقلوا الخبر واحدًا بعد واحد إلى أن يصلوا بالرواية إلى مصدرها الأصلي، فصار الإسناد بذلك هو الوسيلة لنقد الأخبار؛ إذ بمعرفة نقلة الخبر تـُعرف قيمته من حيث القبول والرد، قال ابن المبارك -رحمه الله-: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" رواه مسلم في مقدمة الصحيح.
وكما أمر الشرعُ بقبول خبر العدل الثقة؛ فقد أمر الله -عز وجل- في كتابه وأمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في سنته بالتثبُّت من خبر الفاسق، فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ) (متفق عليه)، وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ) (رواه مسلم).
قال الحاكم -رحمه الله-:
"فلولا الإسناد، وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه؛ لدرس منار الإسلام، ولتمكَّن أهل الإلحاد والبدع بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد؛ فإن الأخبار إذا تعرَّت عن وجود الأسانيد كانت بُترًا" معرفة علوم الحديث: ص6.
وصدق رحمه الله؛ فقد بذل علماء المسلمين غاية الجهد في الحفاظ على الأسانيد وتنقيتها من الكذب والوضع؛ فوضعوا قواعد لجرح الرواة وتعديلهم، ودقـَّقوا في وضع الألفاظ الدالة على الجرح أو التعديل وبيان معانيها، وتشهد بذلك عشرات المؤلفات لعلماء المسلمين في شروط وقواعد الرواية وبيان الثقات والضعفاء، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
الاهتمام بالأسانيد امتد ليشمل غير الحديث النبوي، كالتاريخ:
وإن كان الحديث النبوي قد نال أعلى الاهتمام بدراسة أسانيده وتنقيتها؛ إلا أن الاهتمام بالأسانيد قد امتدَّ ليشمل عددًا من العلوم كالتفسير، والتاريخ، والأدب، حتى صار صفةً غالبةً على منهج تدوين العلوم الإسلامية المختلفة.
والروايات التاريخية المسندة يجدُها الباحث في كتب التاريخ المسنَدة نفسها، وعلى رأسها "تاريخ الأمم والملوك" المعروف بـ"تاريخ الطبري"، ومنها أيضًا كتاب "التاريخ" لخليفة بن خيَّاط البصري، وكتاب "التاريخ الكبير" ليعقوب بن سفيان الفَسَوي، وكتاب "التاريخ" لأبي زرعة الدمشقي، وغيرها من الكتب المسندة، وكذلك توجد بعض المرويات التاريخية في كتب الحديث مثل: "صحيح البخاري" و"مسند أحمد" و"جامع الترمذي"، أو في المصنفات مثل: "مصنف ابن أبي شيبة"، أو في كتب التفسير التي تذكر بعض الروايات التاريخية بالأسانيد مثل: "تفسير الطبري".
ولكن الناظر في الروايات التاريخية يجد أنه بالرغم من وجود روايات مسندة إلا أن الأغلب الأعم في الروايات التاريخية أنها لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية، وأكثرها محمول عن الإخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون، إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة.
تساهل العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية بخلاف الحديث النبوي:
إلا أن الناظر في طريقة العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية يجد أن هناك فرقـًا بين تطبيق قواعد نقد الحديث على الحديث النبوي وعلى الروايات التاريخية؛ فقد كان مِن علماء السلف نوعُ تساهلٍ -تحكُمُه ضوابطُ- مع روايات التاريخ، ولم يعاملوها معاملة الحديث.
قال أكرم ضياء العمري: "أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسُّف كثيرٌ، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامَل معاملة الأحاديث، بل تمَّ التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثِّل هوَّة سحيقة بيننا وبين ماضينا، مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع... لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية؛ فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير مُعين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأُولى نالت من العناية ما يمكِّنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة" دراسات تاريخية: ص27.
التفريق بين ما يُتشدد وما يُتساهل فيه من الأخبار:
ولكن هذا التساهل لا يمكن تعميمه على جميع الروايات التاريخية؛ فإن الناظرَ في طريقة العلماء في التعامل مع الروايات التاريخية من حيث تطبيق قواعد نقد الحديث من عدمه أو التساهل فيه يجد أن الأمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.
وباستقراء ما ذكره العلماء نجد أن أهم ما تشدد فيه العلماء من روايات التاريخ:
1- ما يتعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، والمرويات عن النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يُمكن أن يستنبط منها حكم شرعي، ومنها ما لا يُستنبط منه، وإنما هو من باب الأخبار المجرَّدة.
فأمَّا يمكن أن يُستنبط منه حكمٌ شرعيٌّ فإنه يُتشدَّد في تطبيق قواعد نقد الحديث عليه، أما الأخبار التي لا تـُستنبط منها أحكام كتاريخ سرية من السرايا، أو عدد مَن كان فيها، أو تحديد موقعها بدقة، ونحو ذلك؛ فهذا يُتساهل في روايته.
ولكن ينبغي التعامل بحذر أيضًا مع هذه الأخبار؛ لأنه أحيانـًا تكون مثل هذه الأخبار المُتسَاهل فيها لها علاقة غير مباشرة باستنباط الأحكام، وهذا كمعرفة تقدُّم خبر أو تأخُّره مما يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ على سبيل المثال، فهنا ينبغي العودة إلى التعامل مع قواعد نقد الحديث فيما يتعلق بهذا الحكم، مع مراعاة أنه يمكن الاستفادة من الخبر جملةً مع التوقـُّف في تقرير الأحكام منه، سواء أستـُفِيدت هذه الأحكام بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
2- ما يتعلق بثلب أو تنقص أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته، وعلى رأسهم الصحابة- رضي الله عنهم-، فتشدَّد العلماء في قبول الروايات التاريخية المتعلقة بما جرى بين الصحابة، وكذلك تشدَّدوا في الروايات المنسوبة إلى الأئمة المعروفين الثابتة عدالتهم مما يطعن في اعتقادهم أو سلوكهم، قال ابن حجر -رحمه الله-: "لأنَّ كل من ثبتت عدالته لا يُقبل جرحه حتى يَتبين ذلك عليه بأمر لا يحتمل غير جرحه" التهذيب "7/273".
3- ما يتعلق بقضية في العقيدة كإثبات أسماء وصفات غير واردة في الصحيح، أو ما يتعلق بحكم شرعي كتحليل وتحريم.
قال الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "إذا روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فضائل الأعمال، وما لا يضع حكمًا أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد" الكفاية في علم الرواية: ص212.
وروايات التاريخ تدخل فيما لا يضع حكمًا أو يرفعه، بالضوابط المذكور آنفـًا، وقال محمد بن سليمان الكافيجي -رحمه الله-: "يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفـًًا في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات الباري -عز وجل- وفي صفاته، ولا في الأحكام" المختصر في علوم التاريخ: ص326.
وقد عقد الخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" فصلاً بعنوان: "ما لا يفتقر كتبه إلى الإسناد"، ومما قال فيه: "وأما أخبار الصالحين وحكايات الزهَّاد والمتعبِّدين ومواعظ البلغاء وحكم الأدباء فالأسانيد زينة لها، وليست شرطًا في تأديتها"، ثم ساق بإسناده عن يوسف بن الحسن الرازي قوله: "إسناد الحكمة وجودها".
وساق بإسناده أيضًا إلى سعيد بن يعقوب، قال: "سمعت ابن المبارك وسألناه قلنا: نجد المواعظ في الكتب، فننظر فيها؟
قال: لا بأس، وإن وجدت على الحائط موعظة فانظر فيها تتعظ.
قيل له: فالفقه؟
قال: لا يستقيم إلا بالسماع".
وساق بإسناده أيضًا عن محمد بن عبد الخالق ، قال: كنت جالسًا عند يزيد بن هارون وخراساني يكتب الكلام ولا يكتب الإسناد، قال: فقلت له أو قيل له: "مالك لا تكتب الإسناد؟"، فقال: "أنا خانه خواهم نبازار" ، قال أبو طالب تفسيرَه قال: " أنا لبيتٍ أريده لا للسوق"، قال أبو بكر: "إن كان الذي كتبه الخراساني من أخبار الزهد والرقائق وحكايات الترغيب والمواعظ فلا بأس بما فعل، وإن كان ذلك من أحاديث الأحكام وله تعلق بالحلال والحرام فقد أخطأ في إسقاط أسانيده؛ لأنها هي الطريق إلى تبيُّنه، فكان يلزمه السؤال عن أمره والبحث عن صحته". الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "2/316-319" ط. الرسالة.
فكانت هذه طريقة العلماء -رحمهم الله- في التعامل مع المرويات التاريخية التي لا تـُستقى منها الأحكام، ويبدو هذا المنهج جليًّا أيضًا في تعامل عدد كبير من العلماء ممَّن جمع بين معرفة الحديث والتاريخ مع المرويات التاريخية كابن عساكر، والمزِّي، والذهبي، ومغلطاي، وابن حجر، والسخاوي -رحمهم الله أجمعين-.
مثال تطبيقي مِن تعامُل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- مع الروايات التاريخية:
وبعد استعراض المنهج الإجمالي نقف مع مثالٍ تطبيقيٍّ من تعامل الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- مع المرويات التاريخية، وهو أمير المؤمنين في الحديث الذي شهد له القاصي والداني بعلوِّ الكعب في علم الحديث رواية ودراية، بل إمامته في هذا الفن، ونختار لذلك أمثلةً من تعامله مع مرويات محمد بن إسحق -رحمه الله-.
قال ابن حجر -رحمه الله- عن محمد بن إسحق: "إمام في المغازي صدوق يدلس" طبقات المدلسين: ص51.
وبالرغم من تدليس محمد بن إسحق -رحمه الله- وتقرير ابن حجر لذلك إلا أنه -رحمه الله- كان يعتبر قولَه في السيرة والمغازي فيما لو طُبِّقت عليه قواعد النقد الحديثية لا يصمد أمامها بالمرَّة، ومن ذلك:
أ- في قصة بني النضير ومتى كان حصارهم: ذكر ابن إسحق أنها كانت بعد أُحد وبعد استشهاد القراء في بئر معونة، والذي في البخاري معلـَّقـًا مجزومًا به عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي قبل أحد.
قال البخاري -رحمه الله-: "باب حديث بني النضير، ومخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم في دية الرجلين، وما أرادوا من الغدر برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الزهري عن عروة: كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، وقول الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ) (الحشر: 2)، وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأحد".
وقد مال ابن حجر -رحمه الله- إلى ترجيح رواية ابن إسحق رغم إيراده سببًا للغزوة غير الذي ذكره ابن إسحق، فقد ذكر ابن إسحاق أن عامر بن الطفيل أعتق عمرو بن أمية لما قتل أهل بئر معونة عن رقبة كانت على أمِّه، وقد كانت بئر معونة بعد بدرٍ باتفاق أهل العلم، فخرج عمرو إلى المدينة فصادف رجلين من بني عامر معهما عقد وعهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يشعر به عمرو، فقال لهما عمرو: "ممن أنتما؟"، فذكرا أنهما من بني عامر، فتركهما حتى ناما، فقتلهما عمرو، وظن أنه ظفر ببعض ثأر أصحابه، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: (لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لأُودِيَنَّهُمَا).
فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني النضير يستعينهم في ديتهما، وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحِلف، فلما أتاهم يستعينهم قالوا: "نعم"، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: "إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال"، وكان جالسًا -صلى الله عليه وسلم- إلى جانب جدارٍ لهم، فقالوا: "مَن رجل يعلو على هذا البيت فيُلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟"، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب، فأتى رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء، فقام مظهرًا أنه يقضي حاجة وقال لأصحابه: (لا تَبْرَحُوا)، ورجع مسرعًا إلى المدينة، واستبطأه أصحابه، فأُخبروا أنه توجَّه إلى المدينة، فلحقوا به، فأمر بحربهم والمسير إليهم، فتحصَّنوا، فأمر بقطع النخل والتحريق.
وبعد أن أورد ابن حجر -رحمه الله- كلام ابن إسحق نقل ما رواه ابن مردويه بإسناد صحيح -خلافًا لابن التين في زعمه أنه ليس في هذه القصة حديث بإسناد- إلى معمر، عن الزهري، وفيه: "فلمَّا كانت وقعة بدر كتبت كفار قريش بعدها إلى اليهود أنكم أهل الحلقة والحصون؛ يتهدَّمونهم، فأجمع بنو النضير على الغدر، فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اخرج إلينا في ثلاثة من أصحابك، ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك"، ففعل، فاشتمل اليهود الثلاثة على الخناجر، فأرسلت امرأة من بني النضير إلى أخٍ لها من الأنصار مسلم تخبره بأمر بني النضير، فأخبر أخوها النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل إليهم، فرجع، وصبَّحهم بالكتائب، فحصرهم يومه".
ثم قال ابن حجر: "فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبه -صلى الله عليه وسلم- أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق جلُّ أهل المغازي، فالله أعلم، وإذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير ما ذكر من همِّهم بالغدر به -صلى الله عليه وسلم-، وهو إنما وقع عندما جاء إليهم ليستعين بهم في دية قتيلي عمرو بن أمية؛ تعيَّن ما قال ابن إسحاق؛ لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق" فتح الباري "7/329-332".
ب- في قصة مقتل أبي جهل يوم بدر: جعل رواية ابن إسحق جامعة بين الروايات رغم مخالفتها لما في الصحيح، وذلك في قوله: "فهذا الذي رواه ابن إسحق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه رأى معاذًا ومعوذًا -رضي الله عنهما- شدَّا عليه جميعًا حتى طرحاه -يعني: أبا جهل-" فتح الباري "7/269".
ج- في ذكر عدد الغزوات: استشهد بقول ابن إسحق وجمع بينه وبين أقوال من هو أوثق منه من رواة الصحيح. "فتح الباري: 7/279-280".
وكذا فعل مع الواقدي بالرغم من أنه قال عنه: "متروك مع سعة علمه" التقريب "2/194".
ليس معنى التساهل في رواية التاريخ الرواية عن ساقطي العدالة:
وليس معنى التساهل في رواية التاريخ أن يُتساهل في الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة؛ لأن ساقط العدالة لا يُحمل عنه أصلا، وإنما المقصود التساهل في:
1- قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط أو التغيُّر والاختلاط ونحو ذلك.
2- قبول الروايات المرسلة والمنقطعة.
وهذا ما جعل العلماء لا يتساهلون مع كتب التاريخ التي كتبها ساقطو العدالة من كذابين ووضَّاعين أو من غلاة المبتدعة، فالتساهل في الروايات التاريخية لا يمتد إلى التساهل في حال المؤرخ نفسه؛ فإن المؤرخ يُشترط له ما يُشترط في راوي الحديث من عقل وضبط وإسلام وعدالة.
قال السبكي -رحمه الله-: "فلابد أن يكون المؤرخ عالمًا عادلاً عارفـًا بكل من يترجمه، ليس بينه وبينه من الصداقة ما قد يحمله على التعصب له، ولا من العداوة ما قد يحمله على الغضِّ منه" قاعدة في المؤرخين: ص7.
فالمسعودي -مثلاً- صاحب كتاب "مروج الذهب" تـُطرح مروياته التاريخية، ولا تـُقبل بحال، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "في تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله، فكيف يُوثق بحكاية منقطعة الإسناد في كتاب قد عُرِف بكثرة الكذب؟!" منهاج السنة النبوية "4/84".
وقال ابن حجر -رحمه الله- عنه: "وكتبه طافحة بأنه كان شيعيًّا معتزليًّا" لسان الميزان "5/532".
الخلاصة:
1- للإسناد أهمية كبيرة في الإسلام، ولعلماء المسلمين جهود عظيمة في الحفاظ على الأسانيد.
2- الرواية بالأسانيد لا تقتصر على الأحاديث؛ وإنما تمتد لتشمل التاريخ وغيره.
3- الأغلب الأعم في الروايات التاريخية أنها لا تصل في درجة ثبوتها إلى درجة الأحاديث.
4- عامَلَ العلماء الروايات التاريخية بصورة مختلفة عن الأحاديث النبوية؛ حيث تساهلوا في روايتها، على ألا يشمل هذا التساهل الرواية عن ساقطي العدالة.
5- اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة فيه تعسُّف كبير.
6- يُتشدَّد في تطبيق قواعد نقد الأسانيد فيما يتعلق بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وما يتعلق بتنقص أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته وعلى رأسهم الصحابة الكرام، وكذا ما يتعلق بالاعتقاد أو الأحكام الشرعية.
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علَّمنا.
مراجع لم يُشر إليها في ثنايا المقال:
تاريخ الطبري - حقبة من التاريخ - تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة.
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 6:05 am من طرف m.salah74
» مهاجمة المواقع السيئة خير بعد تحديد الأهداف بدقة
الثلاثاء فبراير 02, 2010 9:37 pm من طرف khaleel124
» حصريا لِمن يبحث عن زوجة مثالية
الإثنين فبراير 01, 2010 9:29 pm من طرف khaleel124
» قصةهمة الشيخ سمير مصطفى حفظه الله
الإثنين فبراير 01, 2010 9:27 pm من طرف khaleel124
» المعارك الكبرى معركة نهاوند الشيخ سمير مصطفى
الإثنين فبراير 01, 2010 9:26 pm من طرف khaleel124
» الملمات الشيخ سمير مصطفى
الإثنين فبراير 01, 2010 9:25 pm من طرف khaleel124
» العواصم من الشيطان و صحيح الرقية الشرعية2
السبت يناير 30, 2010 3:08 pm من طرف khaleel124
» العواصم من الشيطان و صحيح الرقية الشرعية1
السبت يناير 30, 2010 3:04 pm من طرف khaleel124
» السحر
السبت يناير 30, 2010 2:47 pm من طرف khaleel124