الشورى بين فكرتين
كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلقد اعتدَّ النظامُ الإسلاميُ ببيان ارتباط نظام الحكم بالشرع بحيث يقاس صلاح الحكم من تفلُّتِه بمدى التزامه بأحكام الشرع المطهر؛ ومن جهة أخرى يرتبط هذا النظام بالشورى بحيث تجدُ النظامَ يراعي أحوالَ الناس، ويسترشد برؤاهم إما في تطبيق الحكم الشرعي أو في ظل غياب حكم شرعي خاص للمسألة.
لذا فيمكننا وصفُ الشريعةِ الإسلاميةِ بأنها شريعةُ الشورى، بالقدر نفسه الذي توصف فيه بأنها مِنْ عند الله؛ فهي إلهية من حيث مصادرها، ولكنها تعتمدُ أيضاً على مصادرَ اجتهاديةٍ، كالإجماع والاجتهاد، أو يتشاور أصحابُها في أمور دينهم ودنياهم، وفق القواعد العامة للشريعة إن غاب في أي مسألة تـَعـْرِض لهم الحكمُ المباشرُ لها.
ولقد حقق الإسلامُ تلك المعادَلة من حيث ارتباط الناس بالنصوص الشرعية بعمومها وخصوصها، ومع ذلك فقد دعا الإسلام إلى استخدام العقول، وإلى ضبط المجتمعات بتلك الشورى التي هي تعبيرٌ عن رُقي المجتمع، وتماسُكِه واستفادته من خبرات أصحاب الخبرات، ورأي ذوي المشورة.
فهو بذلك يدحض فكرتين معاً: فكرة الحكم بالحق الإلهي التي تجعل الأفراد تروسا في آلة لا رأي لهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدحض فكرةَ إطلاق العنان للعقول لتُبدي الرأي في كل الشئون دونما مرجع أو منهج، مثل ما تحاول المادية المعاصرة ترويجه من خلال الديمقراطية، لذا فقد جعل الإسلامُ التعاملَ مع أحوال المجتمع من خلال نظامين: ما ورد فيه نص شرعي فيجب اتباعه، وتكون الشورى فيه في كيفية تطبيقه، ثم ما لم يرد فيه نص شرعي، وهنا موضع الشورى؛ لتعمل العقول في فهم وبيان الأمور؛ لتصل إلى أعدل تطبيق يتوافق مع روح الشريعة وتوجيهاتها العامة.
وهنا أشير إلى وَصْفٍ إِجمالِي لما نعنيه بالشورى في الفكر الإسلامي، فأقول: "الشورى ممارسة تتصل بكل ما يخص نظمَ الجماعة"، سواء المتعلقة بشؤونها الاجتماعية أو السياسية أو التنظيمية أو المالية، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها.
إن مجالات الشورى متعددة ومتنوعة، فهي تستوعب مجالات الحياة الإنسانية(1)، وقد تكون بين الناس في أمورهم العادية كالنكاح، والبيع، والإجارة، والوكالة، والكفالة؛ إذ قد يستشير المسلم أخاه المسلم في إجراء مثل هذه العقود؛ حتى يستفيد من رأيه.
وقد تكون الشورى من القاضي، فيستشير بعضَ أهل العلم والفقه، في قضية من القضايا قبل أن يصدر الحكم؛ ليستأنس برأيهم، ويستفيدَ من نتاج عقولهم.
وقد تكون الشورى من المفتي، فقد يتعرض للسؤال في مسألة من المسائل، وتقوم الرغبة في نفسه أن يستشير بعض علماء عصره وفقهائه قبل أن يفتي فيها، وتكون الشورى في الأسرة بحيث يتعلم أفرادُها ممارسة الشورى، لا سيما في أحاولهم التي ترتبط بها كتسمية الأبناء، وتربيتهم، وتزويجهم على ما سيأتي تفصيله.
والمشورة والاستشارة: هي تبادل الرأي من غير إلزام.
ويدخل في المشورة والاستشارة: النصيحة، والفتوى، والاستشارة العلمية والقانونية.
والشورى -عادة- ملزمة لجماعة المسلمين في المجال الذي تقدم فيه، بينما المشورة أو الاستشارة اختيارية.
وتمتاز الشورى في الإسلام بالشمول؛ حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد في المشاركة في القرار الملزم الصادر عن الجماعة، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية بالمبادرة إلى إسداء النصح، واستشارة أهل الخبرة وتبادل النصيحة، فالإسلام يندب أفرادَ المجتمع إلى الاستشارة والتناصح قبل الإقدام على الأمر سواء أتعلق بالفرد أو الجماعة.
وقد تكون الشورى من الحاكم؛ إذ قد يستشير أهلَ الشورى أو أهلَ الحل والعقد، أو يستفتي الأمة الإسلامية في قرار مصيري من المصلحة أن يطَّلِع على رأيها فيه.
إن ارتباط الشورى بالشريعة يجعلها خاضعة لمبادئها الأخلاقية الثابتة، وملتزمة بسيادة الشريعة وأصولها وشمولها؛ لذلك فالشورى شرعية، أي: قرَّرها الشرع، وهي ملتزمة به، فهي ليست تشريعاً مستقلاً، بل تشريع منضبط بالشريعة الإسلامية.
إن ما حققته الحضارة الإسلامية من قوة وعظمة في عهود الخلفاء والسلاطين على امتداد عمرها سببه التزامهم بمبدأ سيادة الشريعة، ونجاح الأمة وعلمائها في فرض حرية الفقه عليهم، مما جعل استبداد الحكام في الماضي لا يصل إلى ما وصل إليه طغيان بعض حكام اليوم، من الذين يستخدمون سلطة التشريع الوضعي وسيلة ضد حقوق الأفراد وحرياتهم، وبقوة القانون!!
بينما يشهد الواقع المعاصر أن أكثر الدول تباهيا بديمقراطيتها هي أكثر الدول عدوانًا وفساداً في الأرض، ويتم ذلك بقرارات ديمقراطية، وبعد تشاور حُر يرضي الأهواء والمصالح، من دون التزام بمبدأ إلهي، أو أخلاقي، أو إنساني.
إن الإسلام عندما فرض الشورى بعد ختم رسالة الأنبياء جميعاً عَدّ الإنسانية قد بلغت رشدها، ووصلت حدّ الرقي الاجتماعي، الذي يمكّّن الشعوب من تقرير مصيرها وإدارة شئونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الشورى وقضايا الاجتهاد الجماعي - تأليف الدكتور/ محمد عبد القادر أبو فارس. نشر مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن - الطبعة الأولى سنة 1986 ص 17- 22.
كتبه/ ياسر عبد التواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فلقد اعتدَّ النظامُ الإسلاميُ ببيان ارتباط نظام الحكم بالشرع بحيث يقاس صلاح الحكم من تفلُّتِه بمدى التزامه بأحكام الشرع المطهر؛ ومن جهة أخرى يرتبط هذا النظام بالشورى بحيث تجدُ النظامَ يراعي أحوالَ الناس، ويسترشد برؤاهم إما في تطبيق الحكم الشرعي أو في ظل غياب حكم شرعي خاص للمسألة.
لذا فيمكننا وصفُ الشريعةِ الإسلاميةِ بأنها شريعةُ الشورى، بالقدر نفسه الذي توصف فيه بأنها مِنْ عند الله؛ فهي إلهية من حيث مصادرها، ولكنها تعتمدُ أيضاً على مصادرَ اجتهاديةٍ، كالإجماع والاجتهاد، أو يتشاور أصحابُها في أمور دينهم ودنياهم، وفق القواعد العامة للشريعة إن غاب في أي مسألة تـَعـْرِض لهم الحكمُ المباشرُ لها.
ولقد حقق الإسلامُ تلك المعادَلة من حيث ارتباط الناس بالنصوص الشرعية بعمومها وخصوصها، ومع ذلك فقد دعا الإسلام إلى استخدام العقول، وإلى ضبط المجتمعات بتلك الشورى التي هي تعبيرٌ عن رُقي المجتمع، وتماسُكِه واستفادته من خبرات أصحاب الخبرات، ورأي ذوي المشورة.
فهو بذلك يدحض فكرتين معاً: فكرة الحكم بالحق الإلهي التي تجعل الأفراد تروسا في آلة لا رأي لهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدحض فكرةَ إطلاق العنان للعقول لتُبدي الرأي في كل الشئون دونما مرجع أو منهج، مثل ما تحاول المادية المعاصرة ترويجه من خلال الديمقراطية، لذا فقد جعل الإسلامُ التعاملَ مع أحوال المجتمع من خلال نظامين: ما ورد فيه نص شرعي فيجب اتباعه، وتكون الشورى فيه في كيفية تطبيقه، ثم ما لم يرد فيه نص شرعي، وهنا موضع الشورى؛ لتعمل العقول في فهم وبيان الأمور؛ لتصل إلى أعدل تطبيق يتوافق مع روح الشريعة وتوجيهاتها العامة.
وهنا أشير إلى وَصْفٍ إِجمالِي لما نعنيه بالشورى في الفكر الإسلامي، فأقول: "الشورى ممارسة تتصل بكل ما يخص نظمَ الجماعة"، سواء المتعلقة بشؤونها الاجتماعية أو السياسية أو التنظيمية أو المالية، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها.
إن مجالات الشورى متعددة ومتنوعة، فهي تستوعب مجالات الحياة الإنسانية(1)، وقد تكون بين الناس في أمورهم العادية كالنكاح، والبيع، والإجارة، والوكالة، والكفالة؛ إذ قد يستشير المسلم أخاه المسلم في إجراء مثل هذه العقود؛ حتى يستفيد من رأيه.
وقد تكون الشورى من القاضي، فيستشير بعضَ أهل العلم والفقه، في قضية من القضايا قبل أن يصدر الحكم؛ ليستأنس برأيهم، ويستفيدَ من نتاج عقولهم.
وقد تكون الشورى من المفتي، فقد يتعرض للسؤال في مسألة من المسائل، وتقوم الرغبة في نفسه أن يستشير بعض علماء عصره وفقهائه قبل أن يفتي فيها، وتكون الشورى في الأسرة بحيث يتعلم أفرادُها ممارسة الشورى، لا سيما في أحاولهم التي ترتبط بها كتسمية الأبناء، وتربيتهم، وتزويجهم على ما سيأتي تفصيله.
والمشورة والاستشارة: هي تبادل الرأي من غير إلزام.
ويدخل في المشورة والاستشارة: النصيحة، والفتوى، والاستشارة العلمية والقانونية.
والشورى -عادة- ملزمة لجماعة المسلمين في المجال الذي تقدم فيه، بينما المشورة أو الاستشارة اختيارية.
وتمتاز الشورى في الإسلام بالشمول؛ حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد في المشاركة في القرار الملزم الصادر عن الجماعة، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية بالمبادرة إلى إسداء النصح، واستشارة أهل الخبرة وتبادل النصيحة، فالإسلام يندب أفرادَ المجتمع إلى الاستشارة والتناصح قبل الإقدام على الأمر سواء أتعلق بالفرد أو الجماعة.
وقد تكون الشورى من الحاكم؛ إذ قد يستشير أهلَ الشورى أو أهلَ الحل والعقد، أو يستفتي الأمة الإسلامية في قرار مصيري من المصلحة أن يطَّلِع على رأيها فيه.
إن ارتباط الشورى بالشريعة يجعلها خاضعة لمبادئها الأخلاقية الثابتة، وملتزمة بسيادة الشريعة وأصولها وشمولها؛ لذلك فالشورى شرعية، أي: قرَّرها الشرع، وهي ملتزمة به، فهي ليست تشريعاً مستقلاً، بل تشريع منضبط بالشريعة الإسلامية.
إن ما حققته الحضارة الإسلامية من قوة وعظمة في عهود الخلفاء والسلاطين على امتداد عمرها سببه التزامهم بمبدأ سيادة الشريعة، ونجاح الأمة وعلمائها في فرض حرية الفقه عليهم، مما جعل استبداد الحكام في الماضي لا يصل إلى ما وصل إليه طغيان بعض حكام اليوم، من الذين يستخدمون سلطة التشريع الوضعي وسيلة ضد حقوق الأفراد وحرياتهم، وبقوة القانون!!
بينما يشهد الواقع المعاصر أن أكثر الدول تباهيا بديمقراطيتها هي أكثر الدول عدوانًا وفساداً في الأرض، ويتم ذلك بقرارات ديمقراطية، وبعد تشاور حُر يرضي الأهواء والمصالح، من دون التزام بمبدأ إلهي، أو أخلاقي، أو إنساني.
إن الإسلام عندما فرض الشورى بعد ختم رسالة الأنبياء جميعاً عَدّ الإنسانية قد بلغت رشدها، ووصلت حدّ الرقي الاجتماعي، الذي يمكّّن الشعوب من تقرير مصيرها وإدارة شئونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الشورى وقضايا الاجتهاد الجماعي - تأليف الدكتور/ محمد عبد القادر أبو فارس. نشر مكتبة المنار - الزرقاء - الأردن - الطبعة الأولى سنة 1986 ص 17- 22.
الأربعاء ديسمبر 21, 2011 6:05 am من طرف m.salah74
» مهاجمة المواقع السيئة خير بعد تحديد الأهداف بدقة
الثلاثاء فبراير 02, 2010 9:37 pm من طرف khaleel124
» حصريا لِمن يبحث عن زوجة مثالية
الإثنين فبراير 01, 2010 9:29 pm من طرف khaleel124
» قصةهمة الشيخ سمير مصطفى حفظه الله
الإثنين فبراير 01, 2010 9:27 pm من طرف khaleel124
» المعارك الكبرى معركة نهاوند الشيخ سمير مصطفى
الإثنين فبراير 01, 2010 9:26 pm من طرف khaleel124
» الملمات الشيخ سمير مصطفى
الإثنين فبراير 01, 2010 9:25 pm من طرف khaleel124
» العواصم من الشيطان و صحيح الرقية الشرعية2
السبت يناير 30, 2010 3:08 pm من طرف khaleel124
» العواصم من الشيطان و صحيح الرقية الشرعية1
السبت يناير 30, 2010 3:04 pm من طرف khaleel124
» السحر
السبت يناير 30, 2010 2:47 pm من طرف khaleel124